9
نُبُوءَته صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم عَنْ دِعَّة العَيْش:
أخْرَجَ التِّرْمِذِي في سُنَنه:
حَدَّثَنَا هناد؛ ثَنَا يُونُس بْن بَكِير؛ عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق؛ ثَنَا يَزِيد بْن زِيَاد؛ عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب القُرَظِيّ؛ ثَنَا مَن سَمِعَ عَلِيّ بْن أبِي طَالِب يَقُول n]إنَّا
لَجُلُوس مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم في المَسْجِد إذْ
طَلَع مُصْعَب بْن عُمَيْر؛ مَا عَلَيْه إلاَّ بُرْدَة مَرْقُوعَة
بفَرْو، فلَمَّا رَآه رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم بَكَى
للَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَة والَّذِي هُوَ اليَوْم فِيهِ، ثُمَّ
قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم: كَيْفَ بِكُم إذَا غَدَا
أحَدكُم في حُلّة ورَاحَ في حُلّة، ووُضِعَت بَيْنَ يَدَيْه صَفْحَة
ورُفِعَت أُخْرَى، وسَتَرْتُم بُيُوتكُم كَمَا تُسْتَر الكَعْبَة؟
قَالُوا: يَا رَسُول الله؛ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا اليَوْم،
نَتَفَرَّغ للعِبَادَة ونُكْفَى المُؤْنَة، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى
الله عَلَيْه وسَلَّم: لأَنْتُم اليَوْم خَيْرٌ مِنْكُم يَوْمَئِذٍ ]، المَقْصُود بالصَّفْحَة أيْ مَا يُقَدَّم فِيهِ الطَّعَام.
دَرَجَة الحَدِيث:
الحَدِيث بمَجْمُوع طُرُقه صَحِيح، رِجَال إسْنَاد البَيْهَقي إلاَّ عُمَيْر بْن يَزِيد أبَا جَعْفَر الخَطْمِيّ فإنَّه صَدُوق.
تَحَقُّق النُّبُوءَة:
صَدَقَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم،
فَقَد بَسَطَت الدُّنْيَا بَعْده عَلَى أُمَّته، وتَكَاثَرَت الغَنَائِم
والأمْوَال، وفُتِحَت المُدُن والبِلاد، وشَاهَدَ المُسْلِمون سِعَةً
ورَخَاءً في المَلْبَس والمَأكَل والمَسْكَن، وأصْبَحوا يَتَغَدّون عَلَى
نَوْع ويَتَعَشّون عَلَى آخَر، بَعْدَ أنْ كَانُوا لا يَجِدون مَا يُسَدّ
بِهِ الرَّمَق إلاَّ بشِقّ الأنْفُس، ويَلْبسُون نَهَارَاً مَا لا
يَلْبسُونَه عَصْرَاً، ويَلْبسُون عَصْرَاً مَا لا يَلْبسُونَه لَيْلاً،
ويَلْبسُون يَوْمَاً ما لا يَلْبسُونَه في اليَوْم التَّالِي ولا
السَّابِق، ويَسْترون جُدْرَانهم بالسَّتَائِر، وأرْضهم بالسِّجَّاد، وكُلّ
ذَلِك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء، والله ذُو فَضْلٍ عَظِيم.
الأمْثِلَة التَّطْبِيقِيَّة (مُجَرَّد أمْثِلَة):
لا شَكَّ أنَّ الأمْوَال لَدَى المُسْلِمِين اليَوْم أكْثَر مِمَّا كَانَت
لَدَى الصَّحَابَة رُضْوَان الله عَلَيْهم، فعَلَى سَبِيل المِثَال فَقَط
ولَيْسَ الحَصْر؛ نَرَى اليَوْم التِّلِيفُون المَحْمُول لَدَى كُلّ
النَّاس، باخْتِلاف أعْمَارهم ومُسْتَوَيَاتهم، فلَمْ يَعُد هُنَاك فَرْق
بَيْنَ عَامِل البِنَاء وبَيْنَ الوَزِير، فَكِلاهُمَا مَعَهُ مُوبَايِل
(مَعَ اخْتِلاف المُودِيل طَبْعَاً، فَالنَّاس طَبَقَات)، ولا فَرْق بَيْنَ
الطِّفْل في الابْتِدَائِيَّة والإعْدَادِيَّة وبَيْنَ مُدِير
الشَّرِكَة، فَكِلاهُمَا يَحْمِل المَحْمُول، وإذا نَظَرْت لكَثِير مِنْ
فِئَات المُجْتَمَع التي تَحْمِل هذا المَحْمُول تَجِدهَا بالكاد
تَسْتَطِيع العَيْش وتَوْفِير نَفَقَاتها، والعَجَب أنَّهَا تَقْطَع مِنْ
قُوتها لتُنْفِق عَلَى المَحْمُول، الَّذِي يُصْرَف عَلَيْه مِلْيَارَات
لشِرَائه، ومِلْيَارَات أُخْرَى لشِرَاء الخَطّ، وأُخْرَى تُدْفَع كُلّ
يَوْم للشَّحْن، فَضْلاً عَمَّا يُدْفَع في الإكْسِسْوَارَات وخِلافُه،
وهُوَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ سَفَه الإنْفَاق، فِيهِ أيْضَاً تَضْيِيع
للوَقْت فِيمَا لا طَائِل مِنْ وَرَاءه، وإهْدَار للصِّحَّة التي
تَتَأثَّر بذَبْذَبَاته، وتَبْذِير للمَال، والكَثِير مِنَ المَفَاسِد
والشُّرُور التي لا مَجَال لتَفْنِيدها هُنَا بالأدِلَّة، وهذه صُورَة
وَاحِدَة فَقَط مِنْ صُوَر التَّرَف الَّّذِي أصْبَح مُجْتَمَعنا عَلَيْه
الآن، ويُمْكِن لذُو البَصِيرَة الفَطِن أنْ يَسْتَخْرِج صُوَرَاً أُخْرَى
كَثِيرَة بنَفْسه، وفي المُقَابِل لا تَجِد العِبَادَات والطَّاعَات
والمُسْتَوَى الإيِمَانِي العَام يُؤَدَّى كَمَا كَانَ يُؤَدَّى عَلَى
عَهْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم وصَحَابَته رُضْوَان الله عَلَيْهم، لتَصْدُق نُبُوءَة النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم
في أنَّهُم يَوْمَئِذٍ خَيْر مِمَّا سَتَصِير عَلَيْه حَال الأُمَّة
فيِمَا بَعْد، ولا يَقُول قَائِل أنَّ عِبَادَتهم كَانَت قَوِيَّة بسَبَب
وُجُود الرَّسُول بَيْنهم، فهَذِهِ شُبْهَة جَوْفَاء لا تَخْرُج إلاَّ مِنْ
عَقْل بَلِيد وقَلْب سَقِيم، لأنَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم
تَرَكَ لَنَا نَفْس السُّنَّة التي كَانُوا يَتَّبِعُونَهَا، ولأنَّ الله
تَعَالَى لَمْ يَخْلُق الكَوْن ويُشَرِّع العِبَادَات لفَتْرَة وُجُود
الرَّسُول فَقَط، بَلْ جَعَلَها صَالِحَة ومُوَافِقَة مِنْ عَهْده صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم إلى
يَوْم القِيَامَة، وهذا القَوْل الفَاسِد يَصْطَدِم مَعَ الاعْتِقَاد
والإيِمَان بأنَّ الدِّين (كِتَاب وسُنَّة وشَرَائِع) صَالِح لكُلّ زَمَان
ومَكَان، ولأنَّ هذا أمْر عَام عَلَى الكُلّ، فالمَال فِتْنَة، ورَغَد
العَيْش فِتْنَة، ورَاحَة البَال فِتْنَة، وكُلّ هذه الفِتَن مِنْ شَأنهَا
إضْعَاف الإيِمَان في القَلْب، وزِيَادَة الشَّغَف بالدُّنْيَا عَلَى
حِسَاب العَمَل للآخِرَة، فكَثْرَة المَال مَثَلاً تُؤَدِّي إلى
الانْشِغَال بِهِ، والانْشِغَال بِهِ يَجْلِب الخَوْف عَلَيْه، والخَوْف
عَلَيْه يَصْطَدِم بالإنْفَاق في سَبِيل الله، حتى يَصِير الشِّعَار
السَّائِد هو e]اللِّي يِحْتَاجُه البِيت يِحْرَم عَلَى الجَامِع ]، وهذا ما أخْبَرَنَا بِهِ الحَقّ تَبَارَك وتَعَالى بقَوْله n]اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ
أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ
يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ
اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ
الْغُرُورِ 20 سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 21 ]، لذَلِك كانوا هُمْ خَيْر قَرْن، وما بَعْدهم في سُوء مُسْتَمِرّ إلى يَوْم القِيَامَة، وذَلِك تَحْقِيقَاً لنُبُوءَته صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم،
لكن لَيْسَ مَعْنَى ذَلِك أنْ نُقَصِّر ونُهْمِل ونَتْرُك العَمَل
بالدِّين طَالَمَا أنَّ النُّبُوءَة تَقُول بفَسَاد النَّاس، فالنُّبُوءَة
تَتَحَدَّث عن مَجْمُوع النَّاس، ولكن في الوَسَط يَكُون هُنَاك
الصَّالِحِين الَّذِينَ يَقْتَدُون بسُنَّة رَسُولهم ويَتَّبِعون أمْر
رَبّهم، n]وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ]، فاللَّهُمَّ ارْحَمْنَا واقْبَل دُعَاءَنا n]رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي
بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ]، وشُكْر النِّعْمَة هو
اسْتِخْدَامها فيِمَا خُصِّصَت مِنْ أجْله، وعَدَم الإسْرَاف فِيهَا حتى
لَوْ كَانَ اسْتَخْدَامها فِيمَا أحَلَّ الله، وعَدَم اسْتِخْدَامها في
مَعْصِيَة الله.
10
نُبُوءَته صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم عَنْ زَمَان لا يُبَالي الرَّجُل مِنْ حَيْثُ كَسْبِ المَال:
أخْرَجَ النِّسَائِي في سُنَنه:
حَدَّثَنا القَاسِم بْن زَكَرْيا بْن دِينَار؛ ثَنَا أبُو دَاوُود الحفري؛ عَنْ سُفْيَان بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن؛ عَنْ المقبري؛ عَنْ أبي هُرَيْرَة قَال: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم n]يَأتِي عَلَى النَّاس زَمَان مَا يُبَالِي الرَّجُل مِنْ أيْنَ أصَابَ المَال، مِنْ حَلال أَمْ حَرَام ].
دَرَجَة الحَدِيث:
صَحِيح، أخْرَجَه البُخَارِيّ في صَحِيحه.
تَحَقُّق النُّبُوءَة:
قَدْ تَحَقَّق مَا تَنَبَّأ بِهِ النَّبِيّ الصَّادِق صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم؛
حَيْثُ كَثُرَت الأمْوَال وأصْبَح النَّاس يُقْبِلون عَلَى كَسْبهَا
بنَهمٍ وإعْجَاب، مِنْ غَيْر تَرَدُّد ولا تَفْكِير في مَصْدَرهَا سَوَاء
كَانَ حَلالاً أَمْ حَرَامَاً، يَقُول الحَافِظ ابْن حَجَر n]قَالَ
ابْن التين: أخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم بهذا
تَحْذِيرَاً مِنْ فِتْنَة المال، وهُوَ مِنْ بَعْض دَلائِل نُبُوَّته
لإخْبَاره بالأُمُور التي لَمْ تَكُن في زَمَنه، ووَجْه الذَّمّ مِنْ جِهَة
التَّسْوِيَة بَيْنَ الأمْرَيْن، وإلاَّ فأَخْذ المَال مِنَ الحَلال
لَيْسَ مَذْمُومَاً مِنْ حَيْثُ هُوَ ].
الأمْثِلَة التَّطْبِيقِيَّة (مُجَرَّد أمْثِلَة):
الأمْثِلَة كَثِيرَة ومُتَنَوِّعَة؛ تَعُجّ بِهَا كُلّ فِئَات المُجْتَمَع
وكُلّ طَبَقَات الأعْمَال، ويَعْلَمهَا ذُو البَصِيرَة الفَطِن الَّذِي
مَنَّ الله عَلَيْه بالهِدَايَة والبَصِيرَة، فَالوَاقِع يَشْرَح نَفْسه
مِنْ حَيْث انْتِشَار الكَثِير مِنَ الأَعْمَال المُحَرَّمَة
والمُمْتَلِئَة بالشُّبُهَات ورَغْم ذَلِك إقْبَال النَّاس عَلَيْهَا
ومُجَاهَرَتهم بِهَا وجِدَالهم فِيهَا بغَيْر عِلْم ولا حَيَاء مِنَ الله.
والحَدِيث إنْ كَانَ في لَفْظِه يَتَحَدَّث عَنْ عَدَم الاهْتِمَام بأصْل
المَال مِنْ حَيْث حِلِّه أو حُرْمَته، فَإنَّه في عُمُومه يُشِير إلى
اسْتِخْفَاف النَّاس بأمْر دينهم وتَعَالِيمه، وعَدَم إتِّبَاعهم
لضَوَابِطه وأحْكَامه، وتَكَالُبهم عَلَى الدُّنْيَا عَلَى حِسَاب
الآخِرَة، وإعْلاء أهْوَاءهم وشَهَوَاتهم فَوْقَ شَرْع الله، وكَأنَّهُم
مَا سَمعُوا قَوْل الحَقّ تَبَارَك وتَعَالَى n]يَا
أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ
تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ 168
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى
اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 169 وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا
أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ
170 وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ
يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ
يَعْقِلُونَ 171 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ
مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
172 إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ
الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 173
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 174 أُولَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ
بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ 175 ذَلِكَ بِأَنَّ
اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي
الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ 176 ].
11
نُبُوءَته صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم عَنْ فِتْنَة إنْكَار الحَدِيث:
أخْرَجَ ابْن مَاجَة في مُقَدِّمَة سُنَنه:
حَدَّثَنَا أبُو بَكْر بْن أبِي شَيْبَة؛ ثَنَا زَيْد بْن الحَبَّاب؛ عَنْ مُعَاوِيَة بْن صَالِح؛ ثَنَا الحَسَن بْن جَابِر؛ عَنْ المِقْدَام بْن مَعْد يَكْرب الكندي أنَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم قَال n]يُوشِك
الرَّجُل مُتَّكِئَاً عَلَى أرِيكَته يُحَدِّث بحَدِيث مِنْ حَدِيثِي
فيَقُول: بَيْنَنَا وبَيْنَكُم كِتَاب الله عَزَّ وجَلّ، فَمَا وَجَدْنَا
فِيهِ مِنْ حَلال اسْتَحْلَلْنَاه وما وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَام
حَرَّمْنَاه، ألا وإنَّ ما حَرَّم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم
مِثْل ما حَرَّم الله ].
دَرَجَة الحَدِيث:
الحَدِيث صَحِيح: رِجَال إسْنَاد التِّرْمِذِيّ في حَدِيث أبِي رَافِع ثِقَات رِجَال الصَّحِيحين.
تَحَقُّق النُّبُوءَة:
قَالَ العَظِيم أبَادِي: لَقَدْ ظَهَرَت مُعْجِزَة النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم ووَقَعَ
مَا أخْبَرَ بِهِ، فَإنَّ رَجُلاً خَرَجَ مِنْ الفنجاب مِنْ إقْلِيم
الهِنْد وانْتَسَبَ نَفْسه بأهْل القُرْآن، وشَتَّان بَيْنه وبَيْنَ أهْل
القُرْآن، بَلْ هُوَ مِنْ أهَلْ الإلْحَاد والمُرْتَدِّين، وكَانَ قَبْلَ
ذَلِك مِنَ الصَّالِحِين فَأضَلَّه الشَّيْطَان وأغْوَاه وأبْعَدَه عَنْ
الصِّرَاط المُسْتَقِيم، فَتَفَوَّه بِمَا لا يَتَكَلَّم بِهِ أهْل
الإسْلام، فَأطَالَ لِسَانه في إهَانَة النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم ورَدَّ الأحَادِيث الصَّحِيحَة بأسْرِهَا وقَالَ n]هذه
كُلّها مَكْذُوبَة ومُفْتَرَيَات عَلَى الله تَعَالَى، وإنَّمَا يَجِب
العَمَل بالقُرْآن العَظِيم دُونَ أحَادِيث النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْه
وسَلَّم وإنْ كانَت صَحِيحَة مُتَوَاتِرَة، ومَنْ عَمِلَ بغَيْر القُرْآن
فهُوَ دَاخِل تَحْتَ قَوْل الله تَعَالَى (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا
أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ] وغَيْر ذَلِك
مِنْ أقْوَاله الكُفْرِيَّة، وتَبِعَه بَعْدَ ذَلِك كَثِيرٌ مِنَ الجُهَّال
وجَعَلُوه إمَامَاً، وقَدْ أفْتَى عُلَمَاء العَصْر بكُفْره وإلْحَاده
وخَرَّجُوه عَنْ دَائِرَة الإسْلام.
الأمْثِلَة التَّطْبِيقِيَّة (مُجَرَّد أمْثِلَة):
يَحْدُث ذَلِك أيْضَاً في زَمَاننَا، فَنَرَى رَفْض هُوَاة الادِّعَاء
(سَوَاء مَنْ يَدَّعُون الجَهْل وهُمْ يَعْلَمُون الحَقّ، أو مَنْ
يَدَّعُونَ العِلْم وهُمْ جُهَّال، أو حتى مَنْ يَدَّعُون الجَهْل
وبإمْكَانهم طَلَب العِلْم)؛ نَرَى رَفْضهم لأحَادِيث النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم عِنْدَ
تَوْجِيه النُّصْح إلَيْهم بتَرْك مَا نَهَى عَنْه أو الامْتِثَال لِمَا
أمَرَ بِهِ، ويُطَالِبون بالدَّلِيل الحَرْفِي مِنَ القُرْآن وإلاَّ فَلا
مَجَال لَدَيْهم لقَبُول الأمْر والنَّهي مِنَ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم، ورَغْمَ أنَّ هُنَاك فَارِق كَبِير بَيْنَهم وبَيْنَ هذا الرَّجُل الهِنْدِي في الأدَب مَعَ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم، إلاَّ أنَّ وَجْه التَّشَابُه قَائِم، وهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْه الحَدِيث بمَعْنَاه العَام وهُوَ فِتْنَة إنْكَار الحَدِيث.
12
نُبُوءَته صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم عَنْ كَثْرَة القَتْل:
أخْرَجَ الإمَام مُسْلِم في صَحِيحه :
حَدَّثَنَا قُتَيْبَة بْن سَعِيد؛ ثَنَا يَعْقُوب يَعْنِي عَبْد الرَّحْمَن بْن سُهَيْل؛ عَنْ أبِيه؛ عَنْ أبي هُرَيْرَة قَال: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم n]لا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى يَكْثُر الهَرَجَ، قَالُوا: مَا الهَرَجَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: القَتْل، القَتْل ].
دَرَجَة الحَدِيث:
صَحِيح، أخْرَجَه الشَّيْخَان.
تَحَقُّق النُّبُوءَة:
قَدْ تَحَقَّق مَا تَنَبَّأ بِهِ النَّبِيّ الصَّادِق صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم؛
حَيْثُ سَادَ الهَرَجَ وكَثُرَ القَتْل في هذا الزَّمَان، وانْتَشَرَت
بَلِيَّته في كُلّ مَكَان، وهُوَ في ازْدِيَاد إلى أنْ تَقُوم السَّاعَة،
فَمَا يَمُرّ بِنَا يَوْم إلاَّ وتَقْرَع آذَاننَا فِيهِ عَشَرَات
القَضَايَا للقَتْل بشَتَّى صُوَره، لدَرَجَة أنَّ القَلْب صَارَ لا
يَفْزَع مِنْ نَبَأ القَتْل وخَبَر الاغْتِيَال، بَلْ أصْبَحَت هذه
القَضِيَّة قَضِيَّة يَوْمِيَّة عَادِيَّة، نَسْأل الله سُبْحَانَه
السّتْرَ والعَافِيَة والنَّجَاة مِنْ فِتَن الدُّنْيَا وعَذَاب الآخِرَة.
الأمْثِلَة التَّطْبِيقِيَّة (مُجَرَّد أمْثِلَة):
1- فَلَسْطِين - العِرَاق - أفْغَانِسْتَان - البُوسْنَة والهَرْسَك - الهِنْد، وغَيْرهم، ومَا يَسْتَجِدّ.
2- الفَيْرُوسَات - المَجَاعَات - الأوْبِئَة.
3- الإجْرَام (الَّذِي يُسَمُّونَه الإرْهَاب) - الانْتِحَار - تَضْيِيق الحَيَاة وسُبُل العَيْش - الإدْمَان بكُلّ صُوَره.
4- الإجْهَاض عَنْ عَمْد بلا ضَرُورَة شَرْعِيَّة (والضَّرُورَة الوَحِيدَة هي الخَوْف عَلَى حَيَاة الأُمّ مِنَ الهَلاك).
5- الاغتيال، والذي يكون نتيجة ل (حوادث سرعة السيارات - الغش في مواد البناء - الغش في الدواء والطعام).
6- القَتْل (سَوَاء القَتْل العَمْد أو القَتْل الخَطَأ، فَكِلاهُمَا قَدْ كَثُر).
13
نُبُوءَته صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم عَنْ تَقَارُب الزَّمَان:
أخْرَجَ التِّرْمِذِي في سُنَنه:
حَدَّثَنَا عَبَّاس بْن مُحَمَّد الدَّوْرِي؛ ثَنَا خَالِد بْن مَخْلَد؛ ثَنَا عَبْد الله بْن عُمَرَ العَمْرِيّ؛ عَنْ سَعْد بْن سَعِيد الأنْصَارِي؛ عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم n]لا
تَقُوم السَّاعَة حَتَّى يَتَقَارَب الزَّمَان؛ فتَكُون السَّنَة
كَالشَّهْر؛ والشَّهْر كَالجُمُعَة؛ وتَكُون الجُمُعَة كَاليَوْم؛ ويَكُون
اليَوْم كَالسَّاعَة؛ وتَكُون السَّاعَة كَالضِّرَمَة مِنَ النَّار ].
الضِّرَامُ .. هُوَ مَا تُضْرَم بِهِ النَّار مِنْ كُلّ سَرِيع
الاشْتِعَال؛ كَالحَطَب وغَيْره مِمَّا لَيْسَ لَهُ جَمْر، والمَعْنَى
المَقْصُود أنَّ السَّاعَة تَكُون سَرِيعَة الانْقِضَاء كسُرْعَة اشْتِعَال
الحَطَب الهَشّ.
دَرَجَة الحَدِيث:
الحَدِيث حَسَن، رِجَال أحْمَد ثِقَات إلاَّ سُهَيْل بْن أبي صَالِح فإنَّه صَدُوق.
تَحَقُّق النُّبُوءَة:
قَدْ تَحَقَّق مَا تَنَبَّأ بِهِ النَّبِيّ الصَّادِق صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم؛
حَيْثُ بَدَأ تَقَارُب الزَّمَان، وفَقَدَ الوَقْت بَرَكَته وصَارَ
قَصِيرَاً، فيَمُرّ اليَوْم والأُسْبُوع والشَهْر بَلْ عَام كَامِل
كطَرْفَة عَيْن ولا نَنْتَبِه له.
يَقُول الحَافِظ ابْن حَجَر n]قَالَ
ابْن أبِي جَمْرَة: يُحْتَمَل أنْ يَكُون المُرَاد بتَقَارُب الزَّمَان
قِصَره، والقِصَر يُحْتَمَل أنْ يَكُون حِسِّيَّاً ويُحْتَمَل أنْ يَكُون
مَعْنَوِيَّاً، أمَّا الحِسِّي فلَمْ يَظْهَر بَعْد، ولَعَلَّه مِِنَ
الأُمُور التي تكون قُرْب قِيَام السَّاعَة، وأمَّا المَعْنَوِي فلَهُ
مُدَّة مُنْذُ ظَهَر، يَعْرِف ذَلِك أهْل العِلْم الدِّينِي ومَنْ لَه
فِطْنَة مِنْ أهْل السَّبَب الدُّنْيَوِي، فَلا يَقْدِر أحَدهم أنْ يَبْلُغ
مِنَ العَمَل قَدْر مَا كَانُوا يَعْمَلُونَه قَبْل ذَلِك، ويَشْكُون
ذَلِك ولا يَدْرُون العِلَّة فِيهِ، ولَعَلَّ ذَلِك بسَبَب مَا وَقَعَ مِنْ
ضَعْف الإيِمَان لظُهُور الأُمُور المُخَالِفَة للشَّرْع مِنْ عِدَّة
أوْجُه ].
ويَقُول الخَطَّابِيّ n]هُوَ
مِنْ اسْتِلْذَاذ العَيْش والله أعْلَم، ويَقَع عِنْدَ خُرُوج المَهْدِيّ
ووُقُوع الأمَنَة في الأرْض وغَلَبَة العَدْل فِيهَا، فيُسْتَلَذّ
العَيْش عِنْدَ ذَلِك وتُسْتَقْصَر مُدَّته، ومازَالَ النَّاس
يَسْتَقْصِرون مُدَّة أيَّام الرَّخَاء وإنْ طَالَت، ويَسْتَطِيلون مُدَّة
المَكْرُوه وإنْ قَصرَت ].
وقَالَ الكِرْمَانِي n]الحَقّ أنَّ المُرَاد نَزْع البَرَكَة مِنْ كُلّ شَيْء حَتَّى مِنَ الزَّمَان، وذَلِك مِنْ عَلامَات قُرْب السَّاعَة ].
الأمْثِلَة التَّطْبِيقِيَّة (مُجَرَّد أمْثِلَة):
أقْرَب مِثَال عَلَى ذَلِك هو شَهْر رَمَضَان، فمَا أنْ نَنْتَهِي مِنْه
حَتَّى نَجِده قَدْ قَرُبَ مِيعَاده، وقِسْ عَلَى ذَلِك الكَثِير.
اتمنى الافادة واسألكم الدعاء ,,,,,